اختصر بوتفليقة ثلاثة أجيال من السياسيين.. الأجداد لأنهم ماتوا، والآباء لأنهم ذهبوا، والأبناء لأنهم مبتدئون. وهو حين كان يلتقي الملوك والرؤساء العرب الشباب المبتدئين، أو حين يحلم بلقاء زعماء الغرب المتمرسين، يتذكر، بلا شك، أيامه الخوالي حين كان يصول ويجول في أصقاع العالم، ويخطب من أعلى منابره و يعيش في أبعاده المخملية.. عالم حافل بالأضواء، مليء بالمفاتن، عالم اجتمع فيه لبوتفليقة قوة الشباب وعنفوان المجد وسحر الأفكار الجديدة.

كان بوتفليقة أصغر وزير خارجية في العالم. وكان يمثل بالنسبة لجيل الاستقلال رمزا للفتوة ومثالا لقوّة الإرادة ونموذجا لسحر النجاح… هذه الصورة رافقها على مستوى الخطاب السياسي وعد بتسليم المشعل إلى الجيل الجديد لضمان الاستمرارية والتجديد. لكن ذلك لم يحدث، واستمر الجيل القديم في انفراده بالسلطة ومزاياها.
بوتفليقة بلغ ذرى المجد وهو شاب، وسُرق منه هذا المجد وهو لا يزال شابا في سنة 1978، وقضى عشرين سنة يعبر صحراء قاحلة موزعا وقته بين استشارات لملوك وأمراء الخليج، وقراءة الكتب والتأمل في االفراغ. ثم عاد ثانية وأراد أن يعيد الشباب لبلده الذي أنهكته سنوات الفوضى والجنون. ورغم تجاوزه الستين من العمر، حافظ بوتفليقة على نضارة الشباب، واحتلت قضايا الشباب حيّزا هاما في برنامجه الانتخابي. ووعد الشباب في حملته بأن يفتح لهم نوافذ الحلم ويشرّع أمامهم أبواب الأمل. وشنّ حملات هوجاء ضد العشرية السوداء التي همّشت الشباب وأجهضت تطلعاته وقضّت مضاجعه.
أصبح بوتفليقة رئيسا، لكنه لم يعد شابا، وحين تربّع على عرش المرادية وضع مقياسا للكفاءة، وهو أن من هم دون الخمسين ليسوا أكفاء، فأحاط نفسه بمستشارين تجاوزوا الستين وقضوا نصف عمرهم بعيدا عن البلد وعن مشاكله، وانتشل من النسيان أسماء ارتبطت بالعشرية السوداء لا تفهم آمال وتطلعات الشباب، بل تعتبر الشباب هو سبب البلوى التي أصابت البلد. وإلا كيف نفسر عودة بلخير وبيطاط ومسعادية ورحال وغيرهم من الشيوخ إلى أضواء البلاط؟
يحدث هذا في وقت تتجدّد فيه الطبقات السياسية في العالم كل عشر سنوات، وبتجدّدها تتجدد الأفكار وتتلاقح التجارب وتتكامل الأجيال. أما عندنا فقد اختصر جيل واحد ثلاثة أجيال كاملة باستحواذه على ريوع الثورة ومنافع الثروة، جيل جعل من الأبوية والاحتكار والإقصاء والتهميش شعارا له في شبه مملكة تشبه الاقطاعات القديمة التي علّقت على أبواب مداخلها شعارا يقول:هنا حكم الشيوخ (Gérontocratie) وعقيدتها، أيّها الشباب لا تفكروا، إن الشيوخ يفكرون من أجلكم..الآن بوتفليقة شيخ طاعن في السن يجتر عزلته الكئيبة، وما زال يحكم عبر شيوخ آخرين…
عبد العزيز بوباكير

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *