مالية ومحاسبة

الجزائر تعيد تشكيل خريطة الطاقة الأوروبية: تراجع الغاز المسال يقابله نمو قوي للأنابيب

الجزائر تعيد تشكيل خريطة الطاقة الأوروبية: تراجع الغاز المسال يقابله نمو قوي للأنابيب

شهد القطاع الطاقوي الجزائري تطورات متباينة خلال الربع الأول من عام 2025، حيث تراجعت صادرات الغاز الطبيعي المسال بنسبة 24% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، بينما سجلت صادرات الغاز عبر الأنابيب نمواً قوياً تجاوز 12%. هذه التطورات تكشف عن استراتيجية جزائرية متعددة الأبعاد في سوق الطاقة العالمي، وتؤكد قدرة البلاد على التكيف مع التحديات التقنية والجيوسياسية المعاصرة.

انخفضت صادرات الجزائر من الغاز الطبيعي المسال إلى 2.2 مليون طن في الربع الأول من 2025، مقارنة بـ2.9 مليون طن في الفترة المماثلة من عام 2024، وهو ما يمثل تراجعاً بنسبة 24%. هذا الانخفاض لا يعكس تراجعاً في القدرات الإنتاجية الجزائرية أو في الطلب على الغاز الجزائري، بل يُعزى بشكل أساسي إلى أعمال الصيانة الدورية والضرورية في محطتي الإسالة الرئيسيتين في أرزيو وسكيكدة.

هذه الأعمال التقنية، رغم تأثيرها المؤقت على حجم الصادرات، تُعتبر استثماراً استراتيجياً في المستقبل، حيث تهدف إلى تحسين كفاءة التشغيل وزيادة القدرة الإنتاجية على المدى الطويل. من المتوقع أن تنتهي هذه الأعمال خلال الأشهر القادمة، مما سيسمح للجزائر بالعودة إلى مستويات الإنتاج والتصدير الطبيعية، بل وتجاوزها نحو آفاق أوسع في السوق العالمي للغاز المسال.

في المقابل، حققت الجزائر إنجازاً استراتيجياً مهماً في قطاع نقل الغاز عبر الأنابيب، حيث ارتفعت صادراتها إلى 8.06 مليار متر مكعب خلال الربع الأول من 2025، بزيادة نسبتها 12.6% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. هذا النمو القوي يُعكس فعالية الاستثمارات الجزائرية في تطوير شبكة الأنابيب العابرة للحدود، وكذلك الثقة المتزايدة للشركاء الأوروبيين في الإمدادات الجزائرية كبديل موثوق وآمن.

الأهمية الاستراتيجية لهذا الإنجاز تتضح من خلال مقارنة أرقام الصادرات الجزائرية مع منافسيها الإقليميين، حيث تجاوزت صادرات الجزائر عبر الأنابيب مجتمعة صادرات روسيا وليبيا وأذربيجان نحو الاتحاد الأوروبي. هذا التفوق يضع الجزائر في موقع المزود الثاني لأوروبا بالغاز عبر الأنابيب بعد النرويج، وهو إنجاز يعكس الاستقرار السياسي والأمني في الجزائر، بالإضافة إلى الكفاءة التقنية والتشغيلية لمنظومة النقل الجزائرية.

رغم التراجع المؤقت في صادرات الغاز المسال، نجحت الجزائر في الحفاظ على موقعها ضمن أكبر خمسة موردين للغاز المسال في السوق الأوروبية. حصة الجزائر انخفضت إلى 4.2% من إجمالي واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز المسال، لكنها بقيت في قائمة النخبة إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية التي تتصدر بحصة 51.2%، تليها روسيا بـ17.7%، ثم قطر ونيجيريا.

هذا الاستقرار في الترتيب رغم التحديات التقنية يُظهر مرونة الاقتصاد الجزائري وقدرته على التكيف مع التغيرات السوقية. كما يُعكس الثقة المستمرة للمشترين الأوروبيين في موثوقية الإمدادات الجزائرية، خاصة في ظل عدم الاستقرار الجيوسياسي الذي يؤثر على بعض المصادر الأخرى للطاقة في المنطقة.

شهدت خريطة الغاز الطبيعي المسال في المنطقة العربية تطوراً مهماً مع دخول موريتانيا لأول مرة نادي الدول المصدرة للغاز المسال، وذلك بعد تصدير أول شحنة من مشروع “السلحفاة – أحميم” في شهر أبريل 2025. هذا التطور يُعتبر إنجازاً تقنياً واقتصادياً مهماً لموريتانيا، كما يُضيف بُعداً جديداً للمنافسة في السوق العالمي للغاز.

مشروع “السلحفاة – أحميم” يُمثل نموذجاً للتعاون الإقليمي والاستثمار الدولي في قطاع الطاقة، حيث يُتوقع أن يساهم في تعزيز الاقتصاد الموريتاني وتوفير إيرادات جديدة للدولة. كما أن دخول موريتانيا لهذا القطاع يُعزز من التنوع في مصادر الطاقة العربية ويُقوي الموقع التفاوضي للمنطقة في الأسواق العالمية.

تشير التوقعات الدولية إلى نمو الإمدادات العالمية من الغاز الطبيعي المسال بنسبة 3.3% خلال عام 2025، وسط سباق محتدم بين أوروبا وآسيا على ضمان الشحنات. هذا النمو يأتي في ظل استمرار الأسعار في البقاء بمستويات مرتفعة، مما يُعكس قوة الطلب العالمي على هذا المصدر النظيف للطاقة.

السباق بين القارتين على الغاز المسال يُعكس التحولات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية، حيث تسعى أوروبا لتقليل اعتمادها على الطاقة الروسية، بينما تواصل آسيا نموها الاقتصادي المتسارع الذي يتطلب المزيد من الطاقة. هذا التنافس يُوفر فرصاً ممتازة للدول المنتجة مثل الجزائر لتعظيم عوائدها وتنويع أسواقها.

مع انهيار الإمدادات الروسية وعدم الاستقرار في بعض المناطق المنتجة للطاقة، تتحول الجزائر تدريجياً إلى “الرقم الصعب” في معادلة أمن الطاقة الأوروبي. الموقع الجغرافي المتميز للجزائر، وقربها من الأسواق الأوروبية، بالإضافة إلى الاستقرار السياسي والأمني، كلها عوامل تُعزز من جاذبية الطاقة الجزائرية للشركاء الأوروبيين.

الاستثمارات الجزائرية المستمرة في تطوير البنية التحتية للطاقة، وكذلك التزام البلاد بتعهداتها التعاقدية، يُعززان من موقعها كشريك موثوق في القطاع الطاقوي. هذا الموقع المتميز يُتيح للجزائر فرصاً أكبر للمفاوضة على شروط أفضل، وكذلك لجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية في القطاع.

تواجه الجزائر تحديات وفرصاً متعددة في خريطة الغاز العالمية وسط صعود المنافسين العرب الجدد مثل قطر وموريتانيا. التحدي الأساسي يكمن في الحاجة إلى استثمارات مستمرة لتطوير القدرات الإنتاجية والحفاظ على الحصة السوقية، خاصة مع تزايد المنافسة من المصادر الجديدة للطاقة.

في المقابل، تُوفر التحولات الجيوسياسية العالمية فرصاً ذهبية للجزائر لتعزيز موقعها كمزود رئيسي للطاقة. الطلب المتزايد على الغاز الطبيعي كوقود انتقالي نحو الطاقة المتجددة، بالإضافة إلى التوترات الجيوسياسية التي تؤثر على بعض المصادر التقليدية، كلها عوامل تُعزز من الطلب على الغاز الجزائري. النجاح في استغلال هذه الفرص يتطلب استراتيجية طويلة المدى تجمع بين الاستثمار في التقنيات الحديثة وتطوير الشراكات الاستراتيجية مع الأسواق المستهدفة.

السابق
بيتكوفيتش يحسم موقع التربص المقبل ويختار سيدي موسى قبل السفر لقسنطينة
التالي
سيمبا – نهضة بركان: هل سيتمكن أبطال المغرب من الحفاظ على تقدمهم؟